سورة الأحزاب - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأحزاب)


        


{يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (1) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (3) ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (5)}.
التفسير:
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً}.
ختمت سورة السجدة بقوله تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ} وهو أمر للنبى بالإعراض عن المشركين، والاتجاء إلى وجهة أخرى، حيث لم يجد مع هؤلاء المشركين، هذا الوقوف الطويل الذي وقفه معهم، منذرا ومبشرا.
وفي قوله تعالى {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ} تأكيد لهذا الأمر.. وذلك بأن يثبت النبي على تقوى اللّه، وأن ينظر إلى نفسه أولا، وألا يشغله أمر المشركين، والحرص على هداهم، عن أمر نفسه، كما أنهم مسئولون عن أنفسهم، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [54: النور].
وفي قوله تعالى: {وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ} هو كشف عن هذا البلاء الذي يحيط بالكافرين والمنافقين.. وفي هذا تنبيه للنبى إلى أن يأخذ حذره، وأن يتوقّى هذا الداء الذي يغتال هؤلاء المصابين به.
وفي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً} تعقيب على هذا الأمر الذي تلقاه النبي من ربه، فهو أمر من العليم الحكيم، الذي يقوم أمره على علم وحكمة، فيعلمه سبحانه كشف هذا الخطر الذي يتهدد النبي من استجابته للكافرين والمنافقين إلى ما يدعونه إليه من أن يعبد ما يعبدون، وأن يعبدوا هم ما يعبد، وبحكمته- تعالى- أمر بتجنب الخطر قبل الوقوع فيه.. فإن توقّى الداء خير وأسلم من علاجه.
قوله تعالى: {وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً} هو أمر من لوازم النهى الذي جاء في قوله تعالى: {وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ} فمن لازم هذا النهى أن يتبع النبي ما أوحى إليه من ربه.
وفي هذا الأمر، كما في النهى السابق عليه، تأكيد لما بين النبي وبين الكافرين والمنافقين من بعد بعيد، وأن كلا منهما على طريق، فلا يلتقيان أبدا، إلا إذا حاد هؤلاء الكافرون والمنافقون عن طريقهما، وسلكوا طريق النبي واتبعوا سبيله.. أما النبي، فهو ماض على ما معه من آيات ربه، لا يلتفت يمينا أو شمالا.
وفي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً} تهديد للكافرين والمشركين، وأن اللّه سبحانه مطلع على ما هم فيه من منكر، وسيجزيهم بما كانوا يعملون.
قوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا}.
هو تثبيت للنبى، وإيناس له من ربه، بالتوكل عليه وحده، وأنه لا وحشة ولا خوف عليه من قطيعة الكافرين والمنافقين، الذين يساكنونه، ويعيشون بين جماعة المسلمين.. فإنهم وإن كانوا كثرة في العدد، ووفرة في المال، فإنهم أخف ميزانا، وأضعف شأنا ممن يسند ظهره إلى اللّه، ويسلم أمره إليه.
{وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا}.
قوله تعالى: {ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ}.
تقرّر الآية الكريمة حقيقة واقعة، هى أنه {ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} إذ أن ذلك من شأنه أن يفسد نظام الجسد، إذ يقوم في كيانه قوتان، تعمل فيه كل قوة عمل الأخرى، ومن هنا تعمل كل منهما على إجلاء الأخرى من مكانها، فيقع الجسد نهيا لهذا الصراع بينهما، إذ كل منهما تريد أن يكون لها السلطان عليه.. وبينى على هذه الحقيقة أمور:
أولا: أنه لا يجتمع في كيان إنسان ولاء اللّه، وولاء لأعداء اللّه.. فذلك من شأنه أن يفسد الأمرين معا، لأنه جمع بين النقيضين: فإما ولاء اللّه، وإما ولاء لأعداء اللّه.. وفي هذا يقول السيد المسيح: لا يقدر أحد أن يخدم سيدين، لأنه إما أن يبغض الواحد ويحب الآخر، أو يلازم الواحد ويحقر الآخر.
وثانيا: أنه كما لا يجتمع في جوف إنسان قلبان، كذلك لا يجتمع في ذات امرأة أن تكون أما وزوجا في آن واحد.. ومن ثمّ فإن معاملة الزوجة كأم في الحرمة، وذلك في قول الرجل منهم لامرأته: أنت علىّ كظهر أمي هذه المعاملة التي تجعل الزوج أمّا، فيها قلب للأوضاع، وتعمية وخلط للحقائق.. فالزوج زوج، والأم أم، لا يجتمعان في ذات واحدة، لشخص واحد.
وثالثا: وكما لا تكون زوج الرجل أمّا، كذلك لا يكون متبنّاه ابنا له.. فهذا غير ذاك، ولا يجتمع متبنى وابن في ذات واحدة، لرجل واحد.
ومن ثمّ فإن ما كان يتخذه الجاهليون من تبنى أبناء غيرهم، ومعاملتهم معاملة الأبناء من الصلب، في الميراث وغيره- هو تضييع للأنساب، وتزييف للواقع، وجمع بين ما هو باطل وما هو حق.
وقد كان العرب في جاهليتهم- تحت ظروف الحياة التي تعتمد على الاستكثار من الرجال- يعملون جاهدين على إلحاق غير أبناءهم بهم، ممن يتوسمون فيهم القوة والشجاعة.
فلما جاء الإسلام، وأقام حياة الناس على العدل، ودفع بأس بعضهم عن بعض- لم تعد ثمة داعية إلى الإبقاء على هذه العادة، ولكن كان هناك كثير من الحالات أدركها الإسلام وقد أخذت وضعها في المجتمع، ولم يكن من اليسير التخلص منها بعمل فردى، ومن أجل هذا فقد جاء التوجيه السماوي بإنهاء هذه العلاقة المصطنعة، التي كانت قائمة بين الأدعياء والآباء، وإقامة علاقة أخرى مقامها، أوثق عرى، وأقرب قرابة، هى علاقة الأخوّة في الدين، وقرابة الولاء للّه بين المؤمنين.
وقد كان للنبى صلى اللّه عليه وسلم متبنّى هو زيد بن حارثة الذي كان مولى للسيدة خديجة- رضى اللّه عنها- فلما تزوجها النبي، وهبته زيدا، ولما علم أبو زيد أن ابنه في يد النبي، جاء يطلبه- وكان قد أسره بعض العرب، وباعه، فوقع ليد السيدة خديجة، ثم ليد النبي- فخيّر النبي زيدا بين أن يلحق بأبيه أو يقيم معه، فاختار أن يقيم مع النبي، فأعتقه النبي، وألحقه به، فكان يدعى زيد بن محمد.
فلما نزلت الآية: {ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} أصبح زيد يدعى زيد بن حارثة.. وهكذا تبع المسلمون النبي في هذا، وتخلوا عن نسبة أدعيائهم إليهم.
وقوله تعالى: {ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ} الإشارة {ذلكم} إلى الظّهار، وإلى التبني، وأن ذلك ليس من الحق في شىء، وإنما هو قول يقال، ولا مستند له، ولا حجة عليه.
وفي قوله تعالى: {بِأَفْواهِكُمْ} إشارة إلى أن الكلمة إذا لم تكن عن وعى وإدراك، ولم تقم على منطق وحجة- كانت لغوا، وهذرا، لا وزن له.
وقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ} يقوله سبحانه دائما.. فكل قول للّه، هو الحق المطلق.
وقوله تعالى: {وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} بكلماته، وآياته.. فمن استمع إليها، واستجاب لها هدى إلى صراط مستقيم.
قوله تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً}.
هو التطبيق العملي، لما كشفت عنه الآية السابقة، من بطلان التبني.
فيترتب على هذا أن يلحق الأدعياء بآبائهم، وأن ينتسبوا إلى من ولدوا في فراشهم، فذلك هو الحق، والعدل: {ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} أي هذا العمل هو المقبول عند اللّه، لأن اللّه حق، ولا يقبل إلا حقا.
وفي تعدية الفعل {ادعوهم} باللام، إشارة إلى تضمنه معنى الفعل: انسبوهم، أو ردّوهم، ونحو هذا.
وقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ} أي إن لم يكن لأدعيائكم آباء معروفون لكم ولهم، فادعوهم إخوانا لكم في الدين، وأولياء لكم مع جماعة المؤمنين، كما يقول اللّه تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} وكما يقول سبحانه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ}.
(71: التوبة).
وقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ.. وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} هو تفرقة بين ما يقع على سبيل الخطأ والسهو، وما يقع عن تعمد وقصد، فيما يقع بعد تطبيق هذا الأمر، ودعوة الأدعياء لآبائهم فما وقع من خطأ في دعوتهم لمن كانوا آباء لهم بالتبني، فهو مما تجاوز اللّه عنه، وما كان عن عمد، فهو مما يقع موقع المؤاخذة، ولكن اللّه غفور رحيم، لمن رجع إلى الحقّ، وأصلح ما كان منه.


{النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (6) وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (7) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (8)}.
التفسير:
قوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً}.
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة، كشفت عن زيف علاقات أقامها الجاهليون بين الأشياء، على غير الحقّ، إرضاء لهوى، أو استجابة لتصور فاسد.. مثل معاملة الزوجة معاملة الأم في تحريمها بالظهار، وفي إقامة الدعىّ مقام الابن في النسب والإرث.
وفي هذه الآية، يقيم القرآن علاقات بين ذوات متباعدة في النسب، ويجعل بينها من التلاحم، والتوادّ، ورعاية الحرمات، أكثر مما تقضى به دواعى النسب والقرابة..!
فالنبى- صلوات اللّه وسلامه عليه- وإن لم يكن بينه وبين المؤمنين علاقة نسب وقرابة، هو أقرب إليهم من كل قريب، وآثر عندهم من كل قرابة،. بل إنه لأولى بهم من أنفسهم.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [24: التوبة] ويقول سبحانه: {ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} [120: التوبة].
إن النبىّ هو الأب الأعظم للمؤمنين، هو الذي أحيا مواتهم، وأخرجهم من الظلمات إلى النور، فكان له بهذا سلطان مطلق على وجودهم الرّوحى، الذي لا وجود لهم إلّا به.. يقول النبي الكريم: «والذي نفسى بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من والده وولده، والناس أجمعين» ويقول أيضا: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من نفسه».
وطبيعى أن النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- لا يبغى بهذا الحب الذي يؤثره به المؤمنون- لا يبغى به سلطانا على النفوس، ولا تسلطا على الناس، وإنما يبغى به توثيق إيمان المؤمنين باللّه، وإخلاص ولائهم وحبهم للّه، لأن من أحبّ اللّه أحبّ رسوله.
وأزواج النبي، هنّ من حرماته، التي ينبغى أن يرعاها المؤمنون أكثر من رعايتهم لحرماتهم.. فهنّ أمهات لكل مؤمن، ولهنّ- بهذا- من التوقير والاحترام ماللأم من التوقير والاحترام.. وكما لا يحل للابن أن يتزوج أمه، كذلك لا يحلّ للمؤمن أن يتزوج امرأة تزوج بها النبىّ، لأنها أمه.
وفي قوله تعالى: {وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ} تأكيد لخصوصية النبي في هذا الحكم، دون الناس جميعا.. فلا يصح أن يقاس عليه ملك، أو أمير، أو ذو سلطان دينىّ أو دنيوى.
ومن أجل هذا، فقد جاء قوله تعالى: {وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ}.
ليقرّر أن الخصوصية التي للنبى، لا تنقض ما بين ذوى القربى من صلات قام عليها نظام الحياة الاجتماعية، وأقرها اللّه سبحانه وتعالى في كتابه- أم الكتاب- وفي الكتب المنزلة.. فأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في التوادّ، والتواصل، والتوارث.
وفي قوله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ}.
من هنا بيانية، لأولى الأرحام، أي وأولو الأرحام من المؤمنين والمهاجرين بعضهم أولى ببعض في كتاب اللّه.
أي أنه إذا قام بين المؤمنين ولاء الأخوة في دين اللّه، وقام بين المهاجرين ولاء الإيمان باللّه، والهجرة في سبيل اللّه، فإنه يقوم بين ذوى الأرحام ولاء الرحم إلى جانب ولاء الإيمان والهجرة.. وبهذا يظل لذوى الأرحام من المؤمنين والمهاجرين ولاء الرحم، فهم أحق بالتوارث فيما بينهم.. وعلى هذا فإن التوارث بين ذوى الأرحام على ما قرره القرآن قائم بينهم، فيحجب ولاء الرحم، ولاء الإيمان وولاء الهجرة، إذا اجتمعا معه.
وقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً} إلا هنا للاستثناء، وهو استثناء من عموم الأحوال، التي دل عليها إطلاق الحكم- في قوله تعالى: {وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ}، أي أن هذا الحكم مطلق في جميع الأحوال، إلا في حال واحدة، وهى الحال التي ترون فيها أن تفعلوا معروفا إلى ذويكم من المؤمنين والمهاجرين، من غير ذوى الأرحام، الذين لهم نصيب في الميراث.. ففى هذه الحالة لكم أن توصوا من ثلث ما لكم إلى من ترون الوصية له من المؤمنين والمهاجرين.
وقوله تعالى: {كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً}.
الإشارة {ذلك} إشارة إلى المعروف في قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً}.
فهذا المعروف هو مما دعا اللّه إليه، وحثّ المؤمنين عليه في غير آية من آيات الكتاب.
قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً}.
هو عطف حدث على حدث، وجمع شأن إلى شأن.
والحدث المعطوف عليه هوقوله تعالى: {وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ}.
والحدث المعطوف، هو ما بين الأنبياء من رحم، تجمعهم على ولاء بعضهم لبعض، ومناصرة بعضهم لبعض.. وأنه إذا كانت بين ذوى الأرحام، وشائج القربى، ولحمة الدم، فإن بين الأنبياء جامعة الإيمان باللّه، والدعوة إلى اللّه، والجهاد في سبيل اللّه، لإعلاء كلمة اللّه. فهم جميعا- المتقدمون والمتأخرون منهم- على طريق واحد، وفي مواجهة معركة واحدة، بين الإيمان والكفر والهدى والضلال.. وأن أي لبنة من لبنات الحق يضعها نبى من أنبياء اللّه على هذه الأرض هى دعم للحق، وإعلاء لصرحه.. ولهذا يقول الرسول الكريم: «الأنبياء أبناء علّات أمهاتهم شتى ودينهم واحد».
والميثاق الذي أخذه اللّه على النبيين، هو ما أشار إليه سبحانه وتعالى في قوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ.. قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي؟ قالُوا أَقْرَرْنا.. قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [81: آل عمران].
وهذا الميثاق، يمكن أن يكون قد أخذ على الأنبياء في عالم الأرواح، فشهدوه جميعا.. كما يمكن أن يكون قد أخذ على كل واحد منهم على حدة، حين اختاره اللّه للنبوة.
وفي قوله تعالى: {مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ} هو وصف كاشف للنبى الذي يصدقه الأنبياء وينصرونه، وهو أن يكون نبيا حقا، لا دعيّا.. فما أكثر أولئك الذين يدّعون النبوة.. وآية صدق النبي أن يكون طريقه طريق النبوة، التي لا طريق لها إلا الدعوة إلى الإيمان باللّه، وإفراده سبحانه بالألوهة، ومحاربة الشرك الظاهر والخفي، في كل صوره وأشكاله، مع معجزة متحدية تكون بين يديه.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها، ما قد رأيت.
أما مناسبتها لما بعدها، فإن الآيات التي تأتى بعد هذا ستذكر غزوة الأحزاب، التي اجتمع فيها اليهود مع أهل مكة على حرب النبي.. وأنه إذا كان المشركين أن يحاربوا النبي: فإنه ما كان لليهود- وهم أهل كتاب، وأتباع نبى من أنبياء اللّه- أن ينحازوا إلى جبهة الشرك، وأن يكونوا معهم حربا على المؤمنين.. إن الحق يقتضيهم أن يكونوا على ولاء مع المؤمنين، إذ كان نبيهم على ولاء مع هذا النبي.. ولكنهم خرجوا على هذا الولاء الذي يطالبهم به دينهم، فكفروا بما في الكتاب الذي في أيديهم، بغيا وحسدا. وفي هذا يقول اللّه تعالى فيهم: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ} [187: آل عمران].
وقدم النبي، على الأنبياء جميعا.. لأنه خاتم النبيين، ولأن رسالته هى مجتمع رسالات الأنبياء.. فالأنبياء- صلوات اللّه وسلامه عليهم- وإن سبقوه زمنا، هم متأخرون عنه صلوات اللّه وسلامه عليه- رتبة.. فهو إمامهم الذي انتظم عقدهم بمبعثه.
قوله تعالى: {لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً}.
هو تهديد ووعيد لأهل الكتاب، الذين نقضوا الميثاق الذي أخذه اللّه على نبيهم بأن يصدق بالنبي وينصره، إذا التقى به.. وقد التقى به نبيهم في أشخاصهم، وكان عليهم أن يمضوا هذا الميثاق مع رسول اللّه، وأن يصدّقوه وينصروه.. وقليل منهم من آمن بالنبي وصدقه، وأكثرهم نقضوا هذا الميثاق، فكذبوا النبي، وكانوا حربا عليه.
وفي قوله تعالى: {لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ} إشارة إلى أن هناك مساءلة وحسابا على هذا الميثاق.
وسؤال الصادقين عن صدقهم، يكشف عن أنهم أهل وفاء وإيمان، فيجزون جزاء المؤمنين الموفين بعهدهم.
وقوله تعالى: {وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً} هو الجزاء الذي يلقاه أهل الغدر والخيانة من أهل الكتاب، من عذاب أليم، أعده اللّه لهم في الدنيا والآخرة.. إنهم كافرون، وليس للكافرين إلا العذاب الأليم.


{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (9) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (12) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (14) وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلاً (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (17) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (20)}.
التفسير:
فى هذه الآيات مقطع من غزوة الأحزاب، المعروفة بغزوة الخندق.
وكان يهود المدينة، من بنى قريظة وبنى النضير، قد حرّضوا قريشا على حرب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.. فقد جاء إلى مكة نفر من رؤساء اليهود، وقالوا لقريش إنا سنكون معكم حتى نستأصله، ونخرجه من المدينة، فنشطت قريش لذلك، وأخذت تستعد للحرب، وتدعو لها أحلافها.
ثم جعل اليهود يثيرون القبائل لهذه الحرب، فاستجابت لهم قبائل كثيرة.
فلما استكملت قريش عدتها، خرجت هى وحلفاؤها في جيش كثيف، يقوده أبو سفيان.. وكان ذلك في شوال من سنة خمس من الهجرة.
أما اليهود، فقد استعدوا في داخل المدينة، ليأخذوا النبي والمسلمين من ظهورهم، إذا التحم القتال بينهم وبين قريش.
ولما علم النبي- صلى اللّه عليه وسلم- بما أجمع عليه القوم من هذه الأحزاب المتحزّبة على حربه، استشار أصحابه، فيما يلقى به هذه الجيوش الكثيفة.. فاستقر الرأى على أن يقيم المسلمون خندقا حول المدينة، وقيل إن هذا الرأى كان من سلمان الفارسي.
وبدأ المسلمون في حفر الخندق، وقد عمل معهم فيه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وكان المسلمون يرتجزون وهم يعملون، بهذا الرجز:
سمّاه من بعد جعيل عمرا *** وكان للبائس يوما ظهرا
وكان النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- إذا بلغوا عمرا:«قال معهم عمرا» وإذا بلغوا ظهرا قال: «معهم ظهرا» وجعيل هذا، هو جعيل بن سراقة الضمري، وكان رجلا صالحا من قدماء المهاجرين، ومن الذين شهدوا المشاهد كلها مع النبي، وقد غيّر الرسول اسمه هذا، فسماه عمرا.. ولما قسم الرسول غنائم حنين، ولم يعط الأنصار منها شيئا، ولا كثيرا من المهاجرين، وفرقها في قريش والمؤلفة قلوبهم، ليثبتوا على الإسلام- كان جعيل ممن حرم العطية، وكان من فقراء الصحابة، فكلم سعد بن أبى وقاص النبي في ذلك، وقال يا رسول اللّه، تحرم جعيلا مع ما تعلمه من خلّته، وتعطى عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، وفلانا وفلانا؟ فقال صلى اللّه عليه وسلم: «أما والذي نفسى بيده لجعيل بن سراقة خير من طلاع الأرض مثل عيينة والأقرع، ولكن تألفتهما ليسلما، ووكلت جعيل بن سراقة إلى إسلامه».
هذا، وما كاد الرسول يفرغ من حفر الخندق، حتى أقبلت قريش، وحتى نزلت بمجتمع الأسيال من رومة بين الجرف وزغابة في عشرة آلاف من أحابيشهم، ومن تبعهم من بنى كنانة وأهل تهامة.. وأقبلت غطفان ومن تبعهم من أهل نجد، حتى نزلوا إلى جانب أحد.
أما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقد خرج بالمسلمين، وجعل ظهورهم إلى جبل سلع، وضرب هناك عسكره، والخندق بينه وبين القوم، وكان قد اجتمع له نحو ثلاثة آلاف من المسلمين.
وطال انتظار قريش أمام الخندق، تفكر في وسيلة تدخل بها على المسلمين المدينة.. واستمر ذلك نحو شهرين، وفي خلال تلك المدة استطاع بعض فرسان قريش عبور الخندق، وكان منهم عمرو بن ودّ العامري، وعتبة بن أبى سفيان.
وقد طلب عمرو بن ود المبارزة، وكان من فرسان العرب المعدودين، ويقال إنه كان يحسب بألف فارس.. وتحرك على بن أبى طالب إلى مبارزة عمرو، فرده النبي إشفاقا عليه منه، وكان علىّ لا يجاوز العشرين من عمره، ولم يستكمل قوته بعد.. وكرر عمرو النداء، وأخيرا أذن النبي لعلى في لقائه، وألبسه النبي درعه، وعمّمه، ودعا له.. والتقى على بعمرو، ولم يلبث أن قتله على، فكبّر وكبر المسلمون.. واهتزت أرجاء المدينة، وغمر البشر والفرحة أهل المدينة من المسلمين، على حين اغتم المشركون واليهود، وعلاهم الخزي والهوان.
وفي أثناء ذلك انكشفت للمسلمين وجوه أهل النفاق، ومن في قلوبهم مرض، ونزلت آيات القرآن تحدث بما كان عليه هؤلاء وأولئك، من مواقف منحرفة، ساعة العسرة وحين البأس.
ثم أوقع اللّه سبحانه بين المشركين وحلفائهم من اليهود، فاتّهم كل منهما صاحبه في الوفاء بالتزاماته نحوه، فانقصم ما بينهما من ائتلاف، وأعطى كل منهما ظهره لصاحبه.. ثم كان من تدبير اللّه بعد هذا أن أرسل على معسكر المشركين ريحا عاصفة في ليلة شديدة البرد، فاقتلعت الخيام، وأطفأت النيران، وأطلقت الإبل والخيل من مرابطها.. وكأنها تؤذّن في القوم بالرحيل، وتسبق بالعمل المشاعر التي كانت تدور في صدورهم، فلم يمد أحد منهم يده إلى نصب خيمته التي اقتلعتها العاصفة، ولم يمسك أحد منهم بمقود فرسه، أو خطام ناقته، يعيدها إلى مربطها.. بل لقد بدا لهم هذا الذي حدث، أنه نفير العودة إلى مكة.. فأخذوا وجهتهم إليها، تدفعهم نحوها ريح عاتية، تضربهم بأجنحتها القوية المغموسة بالرمال والغبار!: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً} [25: الأحزاب].
هذا هو مجمل القصة لغزوة الأحزاب، أو الخندق كما تسمّى، والتي كانت الآية السابقة حديثا عن المقطع الأول منها.
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً}.
هو صورة مجملة للقصة كلها.. فهناك جنود قد جاءوا إلى المسلمين، يريدون حربهم، والقضاء عليهم، فدفعهم اللّه عنهم، وتلقاهم بجنود من عنده.
وهذه نعمة من نعم اللّه على المؤمنين، تستوجب الشكر والحمد للّه رب العالمين.
وفي قوله تعالى: {وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها} إشارة إلى أن الريح التي أرسلها اللّه سبحانه على المشركين، هى جند من جند اللّه التي رآها المسلمون عيانا، ورأوا أفعالها في عسكر المشركين.
وهناك جنود أخرى لم يرها أحد، كانت تعمل في تلك المعركة، حتى أوقعت الهزيمة بالمشركين، فانقلبوا بشرّ منقلب.
وهذه الجنود غير المرئية كثيرة لا حصر لها.. {وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} وقد يكون منها هذه المشاعر التي تسلطت على المشركين من الخوف والقلق، ومن سوء ظن بعضهم ببعض، وقد تكون وساوس وخواطر، تمشّى بها بعض العقلاء بين الجماعات المتحالفة، فأفسد ما بينهم.. وقد تكون ملائكة من ملائكة الرحمن جاءت مع الريح، فضاعفت من أفاعيلها، وبالغت في آثارها.
وفي قوله تعالى: {وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً} إشارة إلى ماللّه سبحانه وتعالى من علم لا يعلمه أحد، وإلى أن الناس لا يعلمون من علم اللّه شيئا، حتى هذه الأمور المتصلة بهم، كتلك الجنود الخفية التي أحدثت هذه الآثار، على حين أن اللّه سبحانه يعلم من أمر الناس ما يسرّون وما يعلنون، علم مشاهدة.. {وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً}.
فهو على كاشف لكل شىء، كالعلم الذي يقع عن نظر وشهود بالنسبة لنا، على خلاف العلم المطلق، فقد يقع عن حدس وظن.. وهذا هو بعض السر في جعل فاصلة الآية: {بصيرا} بدل {عليما}.
.! فعلم اللّه سبحانه، علم شهادة: {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ}.
قوله تعالى: {إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا}.
هنا تبدأ الآيات في تفصيل ما أجملته الآية السابقة من أحداث هذه القصة.
فهؤلاء الجنود الذين جاءوا إلى المسلمين، قد جاءوهم من فوقهم، أي من نجد، ومن أسفل منهم، أي من تهامة.. وهذا يعنى أنهم قد أطبقوا على المسلمين من كل جهة، فتمكنوا منهم، وسدّوا منافذ النجاة عليهم.
وفي قوله تعالى: {وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ} تصوير للحال التي استولت على المسلمين من هذا الخطر الزاحف عليهم.
وزيغان الأبصار، كناية عن الكرب الذي دخل على المسلمين، حتى اضطرب لذلك تفكيرهم، وغابت وجوه الرأى عنهم، فلم يتبينوا ماذا يأخذون أو يدعون من أمرهم.
وبلوغ القلوب الحناجر، كناية أخرى عن هذا الكرب، وأنه أزال القلوب عن مواضعها، بما أحدث فيها هذا الكرب من اضطراب وخفقان.
وفي قوله تعالى: {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا}.
وفي التعبير عن هذا الحدث يفعل المستقبل، دون الفعل الماضي، الذي جاء تعبيرا عن الحدثين:
{زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ} في هذا ما يشير إلى أن زيغان الأبصار، واضطراب القلوب، إنما هما حال لبست المسلمين مرة واحدة، عند استقبالهم لهذا المكروه.. أما الظن باللّه، فهو أحوال متجددة، تعاود المسلمين حالا بعد حال.. حيث يترددون بين الرجاء واليأس، وبين اليقين والشك، حسب الأحوال النفسية، أو المادية، التي تعرض لهم!.
وفي جمع {الظنون} إشارة إلى أنها ظنون كثيرة مختلفة، تعاود الشخص الواحد، كما أنها تختلف من شخص إلى شخص.. فهناك من المؤمنين من هم على يقين من أمر ربهم، فلا يظنون إلا خيرا، وأن اللّه منجز لهم ما وعدهم في عدوهم.. إن لم يكن في هذه المعركة ففى معارك أخرى قادمة، إن لم يشهدوها هم، فسيشهدها من بعدهم من إخوانهم.. وهناك من المؤمنين من لم يعصمهم إيمانهم من ظنون السوء، فظنوا باللّه غير الحق، ظن الجاهلية.
قوله تعالى: {هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً}.
الإشارة هنا إلى هذا الموقف الذي واجه فيه المؤمنين الأحزاب.. ففى هذا الموقف ابتلى المؤمنون، وامتحنوا، في إيمانهم باللّه.. وكان الابتلاء شديدا، والامتحان قاسيا، لا يصبر عليه، ولا يخلص منه، ناجيا بدينه، سليما في معتقده، معافى في إيمانه، إلّا من اطمأن قلبه بالإيمان، وعرف ما للّه في عباده من ابتلاء، {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [37: الأنفال].
وقوله تعالى: {وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً} بيان لما في هذا الابتلاء من شدة، هزّت كيان المسلمين هزا، ومخضت مشاعرهم كما يمخض اللبن، حتى تنكشف الرغوة عن الصريح.. كما يقول سبحانه: {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ} [154: آل عمران].
قوله تعالى: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً}.
العطف هنا على قوله تعالى: {وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} فهذه حال من تلك الأحوال التي عرضت للمسلمين يومئذ، وهى أن المنافقين ومن في قلوبهم مرض من المؤمنين، قد كانوا من الذين ظنوا باللّه ظن السوء.. فكان قولهم في مواجهة هذا الابتلاء، هو الكفر الصريح:
{ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً}.
أي أكاذيب وأباطيل، وأمانىّ من من الخداع، والتغرير.. وهكذا تكشف الشدائد والمحن عن معادن الناس، وعن مطويات الضمائر، وما تخفى الصدور.
قوله تعالى: {وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً}.
هو معطوف على ما قبله، وهو بيان لمقولة طائفة من طوائف هؤلاء المنافقين ومن في قلوبهم مرض.. إنهم لم يقفوا عند حدّ هذه الوساوس السوء من الظنون، بل جاوزوا هذا إلى إذاعتها في الناس، وإلى تيئيسهم، وزعزعة إيمانهم.. فينادون في الناس بهذا النداء الشيطاني المشئوم: {يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا}.
أي ماذا تنتظرون؟ وما متعلقكم بهذه الأمانى الباطلة؟
إنكم مخدوعون.. فما مقامكم فيما أنتم فيه؟ ارجعوا إلى دياركم وأهليكم، حيث الأمن والسلامة، وحيث الراحة من هذا العبث الذي لا شيء وراءه.
وفي مناداتهم بيا أهل يثرب، دعوة إلى ردّة، يريدون بها دفع هذه المشاعر الجديدة التي عاش بها المسلمون في مجتمعهم الجديد، حيث اتخذت المدينة في ظل الإسلام اسما جديدا، هو المدينة، بدلا من اسمها يثرب الذي عاشت فيه مع الكفر والشرك! إنهم يريدون بهذا النداء، أن يجلو عن المشاعر هذا الاسم الكريم، كما أرادوا أن يجلو عنها الدين الحنيف! قوله تعالى: {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ}.
معطوف على محذوف، هو استجابة لهذه الدعوة التي دعا بها بعض المنافقين ومن في قلوبهم مرض، واستجاب لها بعض المنافقين ومن في قلوبهم مرض.
ودعوتهم هى: {يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا}.
واستجابة المستجيبين لهذه الدعوة كانت على أسلوبين: أسلوب الرجوع بغير استئذان من النبي، وأسلوب الرجوع بعد الإذن منه.. أي أن هؤلاء الذين استجابوا لتلك الدعوة من المنافقين ومن في قلوبهم مرض كانوا فريقين: أحدهما استجاب للدعوة فورا، فلم يلتفت إلى شىء، ولم يراجع نفسه، أو يرجع إلى النبىّ.. والآخر، أراد أن يدارى نفاقه ويستر ضعف إيمانه، بهذا العذر الذي يعتذر به للنبى، وهو أن بيته مهدد بمن يعتدى عليه، ويهتك ستره.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى حكاية لقولهم: {يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ} أي معرضة للعدوان عليها من المشركين أو غيرهم.
وفي قوله تعالى: {وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ} تكذيب لهذه القولة الفاجرة.. إن بيوتهم ليست عورة، بل هى في حمى المسلمين جميعا، وما يجرى على بيوت المسلمين يجرى على بيوتهم.. فلو دخل المشركون المدينة، لما استباحوا بيوت هؤلاء المعتذرين وحدهم، بل لاستباحوا بيوت المسلمين جميعها.. {إن يريدون إلا فرارا} أي ما يريد هؤلاء المعتذرون إلا فرارا من هذا الموقف الذي هم فيه، وإلا ضنّا بأنفسهم عن أن يشهدوا القتال، وأن يكونوا في المقاتلين.
قوله تعالى: {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً}.
هو بيان لضعف إيمان هؤلاء المعتذرين، وأنهم يحرصون على حياتهم أكثر من حرصهم على إيمانهم، أو حرمات بيوتهم.
فلو دخل المشركون على هؤلاء المعتذرين بيوتهم من كل مدخل منها، ثم دعوهم إلى الخروج منها لخرجوا منها، ونزلوا عنها لهم من غير أن يدافعوا عنها، ويؤدوا حق حرمتها عليهم.
وفي قوله تعالى: {دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ} بالبناء للمجهول، إشارة إلى أن هؤلاء المعتذرين- لحرصهم على الحياة- يسلمون بيوتهم لأى داخل عليهم، فرارا بأنفسهم.
وفي قوله تعالى: {ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ} إشارة إلى أن ما يسألونه، ويطلب إليهم الخروج منه، وهو بيوتهم، هو فتنة، وبلاء عظيم، أشبه بالفتنة في الدين، لأن حرمة البيوت- عند الأحرار تعدل حرمة النفس، والدين، وغيرهما من المقدسات التي يحرص عليها الأحرار.. وفي هذا يقول اللّه تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} [66: النساء] فقد جاء الخروج من الديار موازنا لقتل النفوس.. ويقول سبحانه وتعالى:
{وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [191: البقرة] فمن الفتنة، الإخراج من الديار.
وفي قوله تعالى: {وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً} إشارة إلى مبادرة هؤلاء المستخفّين بالحرمات، إلى الخروج من ديارهم، وتسليمها ليد طالبيها منهم، دون إمهال أو تلبث،.. وحسبهم أن ينجوا بجلدهم!! فهؤلاء الذين فتنوا في دينهم، بموقفهم المتخاذل في مواجهة العدو، ثم فرارهم من ميدان المعركة، وخروجهم من دينهم في غير تردد، هم أنفسهم أولئك الذين ينزلون عن ديارهم، ويخرجون منها في غير تردد أو تلبث أيضا.
وهكذا الإنسان، في موقفه من حرماته.. إن من يفرط في أي حرمة من الحرمات، هو مستعد للتفريط فيها كلها.. إنّ الحرمات، هى كيان واحد، وإن تعددت صورها، وأشكالها.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا}.
أي أن هؤلاء الفارين من ميدان القتال، قد نقضوا عهدهم الذي عاهدوا اللّه عليه من قبل، حين دخلوا في دين اللّه.
وهذا العهد، هو أن يطيعوا اللّه والرسول، وأن يجاهدوا في سبيل اللّه، وألّا يولّوا الأدبار.. وفي هذا يقول اللّه تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [15- 16: الأنفال].. فهذا هو عهد اللّه الذي أخذه على المؤمنين، وقد دخلوا في دين اللّه على هذا العهد.
وفي قوله تعالى: {وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا} إشارة إلى أن عهد اللّه أشبه بكائن حىّ مجسد، وأنه يقوم في الناس مقام الرسول المبلّغ عن ربه.
ولهذا فهو يسأل عمن أوفى به، ومن نكث، كما يسأل الرسل عمن آمن بهم ومن كفر، كما يقول اللّه تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ} [109: المائدة].. وفي هذا تعظيم لعهد اللّه، وما ينبغى أن يكون له في الناس من إكبار وإجلال.
قوله تعالى: {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا}.
هو قطع لتلك الآمال الكاذبة التي يعيش فيها أولئك الذين فروا من ميدان القتال، ظانّين أن ذلك يحفظ عليهم حياتهم، ويرد غائلة الموت عنهم.
وهم في هذا مخدوعون، قد غطّى على أبصارهم حبّ الحياة، حتى لقد أنساهم ذلك، تلك الحقيقة الماثلة أمامهم، وأنهم مقضى عليهم بالموت المحكوم به على كل حى.
فهذا الفرار من الموت- على أي صورة من صوره، حتفا، أو قتلا- إلى أين ينتهى بهم الطريق الذي يركبونه فارين منه؟ إنه منته بهم إلى الموت حتما.
إن لم يكن اليوم فغدا، أو بعد غد.. إنه آت لا شك فيه، طال الطريق أم قصر.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ} [8: الجمعة] ويقول سبحانه: {أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [78: النساء].
وفي قوله تعالى: {مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ} بيان للصورة التي يقع عليها الموت، وهو إما أن يكون موتا طبيعيا، أو في حدث من الأحداث، كالحرب وغيرها.
وفي قوله تعالى: {وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا} أي أن هذا الفرار لا يعصمكم من الموت الذي يترصدكم، ويتربص بكم الساعة التي تنتهى فيها آجالكم. {فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [34: الأعراف].
قوله تعالى: {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً}.
إشارة إلى أنه لا وجه يفرّ إليه هؤلاء الفارون من قضاء اللّه فيهم.. إن ذلك الفرار سوء ظن منهم بسلطان اللّه وقدرته.. ولو علموا بعض ما اللّه من علم وقدرة وسلطان، لما تحولوا عن هذا الموقف الذي هم فيه، مقدرين أن ذلك ينجيهم من الموت، ويمد لهم في آجالهم التي يخيل إليهم أن القتال، سيختصر مقامهم في هذه الدنيا، ويحصد حياتهم قبل أوانها.
وفي قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً} في هذا ما يسأل عنه، وهو: إذا صح أن الإنسان يطلب معتصما يعتصم به حال الضر والسوء.. فكيف يصح أن يطلب معتصما حين يراد به الخير والرحمة؟ وإذا صح أن يفر الإنسان من مواطن الخطر والشر، فهل يصح أن يفر من مواطن الخير والإحسان؟.. وإذا فما تأويل قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً}؟.
والجواب على هذا من وجهين:
فأولا: أن الإنسان لا يملك مع أمر اللّه شيئا.. وأن ما يساق إليه من سوء أو رحمة، هو من عند اللّه.. وعلى هذا، فإنه إذا رأى بلاء اللّه واقعا به، وطلب معتصما يعتصم به، وملجأ، يلجأ إليه، من هذا البلاء، فلن يجد.. كما أنه إذا أراد اللّه به خيرا ورحمة، فإن هذه الرحمة وذلك الخير لا بد أن يصلا إليه مهما حاول هو- عن جهل وغباء- أن يفر منهما.
وثانيا: أن تقدير الإنسان للأمور لا يقع على وجه صحيح في كل حال، فقد يفر الإنسان من أمر، ويعرض عنه، متكرها له، طالبا السلامة منه، وهو في صميمه خير له، وبركة عائدة عليه.. وأن اللّه سبحانه، لو كان يريد به الخير لأمسكه على هذا المكروه، ولما صرفه عنه.. ولو أراد به سبحانه السوء لخلىّ بينه وبين ما يريد، فيقع في المكروه الذي يتوقع النجاة منه بإعراضه عنه، وفراره منه، وذلك بما يفوته من الخير المطوىّ في هذا المكروه.
وهذا هو حال هؤلاء الفارّين من ميدان القتال.. إنهم تكرهوا هذا الأمر، وفروا منه، وهو في صميمه خير ورحمة وبركة.. وإذ لم يرد اللّه بهم خيرا، فقد خلّى بينهم وبين ما أرادوا.. على حين أنه سبحانه أمسك على هذا المكروه، من أراد بهم الخير والرحمة من عباده المؤمنين..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ} [23: الأنفال].
وفي قوله تعالى: {وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً} ما يسأل عنه أيضا، وهو: لما ذا اختلف النظم، فكان خطابا في قوله تعالى {مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً}.
ثم كان غيبة في قوله تعالى: {وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً}؟.
والجواب على هذا، هو أن هذا الخطاب كان لهؤلاء المنافقين والذين في قلوبهم مرض، وهم في حضور مع المؤمنين في ميدان القتال.. يعيشون بتلك الخواطر المريضة، والمشاعر الكاذبة، ويديرون في كيانهم وجوه الأعذار التي يعتذرون بها للفرار من هذا الموقف.. هذا هو حالهم قبل أن يفروا.. فلما اجتمع لهم الرأى على الفرار، وفرّوا- كان الحكم عليهم غيابيا، في مواجهة المؤمنين.. فلا يستمعون هم إلى هذا الحكم، ولا يدرون ما ذا يريد اللّه بهم، حتى يفجؤهم العذاب، وينزل بهم البلاء، وهم في غفلة عنه.. وفي هذا بلاء فوق البلاء، وعذاب فوق العذاب..
قوله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا}.
المعوقون: هم الذين يمسكون غيرهم عن الخروج مع المؤمنين إلى القتال، بدءا، بعد أن فعلوا هذا بأنفسهم أولا.. فهم لم يخرجوا إلى القتال، ثم ثبّطوا غيرهم، وزينوا لهم القعود.
والقاتلون لإخوانهم هلمّ إلينا.. هم الذين قعدوا عن القتال، ولم يخرجوا، ثم سعوا إلى تحريض الذين خرجوا إلى القتال، وزينوا لهم أن يعودوا إليهم، وأن يقعدوا معهم كما قعدوا هم، قائلين لهم.. {هَلُمَّ إِلَيْنا} أي أقبلوا إلينا.
وهلم اسم فعل أمر، يلزم حالا واحدة في الإفراد والتثنية والجمع والتذكير والتأنيث، فيقال للاثنين: هلم، وللجمع: هلم.
والبأس: القتال.
و{قد يعلم}.
بمعنى قد علم اللّه.. لأن علم اللّه سبحانه وتعالى قديم.
والتعبير عن العلم بفعل المستقبل، إنما هو بالنسبة لما سيقع من أصحاب هذه المواقف الخاسرة. فهو تحذير لهم من أن يقعوا في هذا المحظور المنكر، قبل أن يقع.
والآية تكشف عن موقفين من مواقف المنافقين والذين في قلوبهم مرض، الذين تخلفوا ولم يخرجوا للقتال ابتداء، أثناء هذه المواجهة التي كانت بين المسلمين، والأحزاب، على حافتى الخندق الذي أقامه المسلمون حول المدينة.
فهؤلاء الذين قعدوا، لم يقفوا عند هذا الحدّ.. بل كان منهم المعوّقون، الذين أمسكوا غيرهم معهم عن الخروج، وزينوا لهم القعود مع القاعدين.
وكان منهم الذين أرادوا إفساد أمر الذين خرجوا.. يلقون إليهم بما يحسبونه نصحا لهم، وإشفاقا عليهم، فيقولون لهم فيما يقولون: عودوا إلينا.. {لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا}.
قوله تعالى: {وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا}.
المفسرون على قول واحد، في أن هذا المقطع من الآية، هو وصف من أوصاف هؤلاء المنافقين، الذين تهدّدهم اللّه سبحانه وتوعدهم بقوله: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا} وهو عندهم، إما معطوف على صلة الموصول في قوله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ} أي الذين يعوقون غيرهم منكم، ويقولون لإخوانهم هلم إلينا، ولا يأتون البأس إلا قليلا.. وإما أن يكون حالا من الضمير في اسم الفاعل {والقائلين}.
والرأى عندنا- واللّه أعلم- هو أن قوله تعالى: {وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا} حال من الضمير في {إخوانهم}.
وهذا الحال هو وصف كاشف لإخوان المنافقين، الذين يدعوهم المنافقون إليهم، ويطمعون في أن يستجيبوا لهم.. فهؤلاء الذين يطمع المنافقون في استجابتهم لهم، هم من ضعاف الإيمان، الذين يعرف المنافقون موطن الضعف فيهم، ولهذا سماهم القرآن {إخوانهم}.
فهم على حال مقاربة، سواء منهم من قعد، ولم يخرج، أو من خرج مع المؤمنين.
إنه لا غناء فيه، ولا نفع للمسلمين منه، في موقفهم من عدوهم.. إنهم {لا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا}.
والمراد بالقلة هنا قلة الغناء في الحرب، وضعف الأثر الذي لهم في القتال.. فهم وإن شهدوا الحرب، إنما يشهدون بنفوس مريضة، وقلوب واجفة، وأبصار زائغة.. أما إخوانهم الذين قعدوا من أول الأمر، ولم يخرجوا مع المسلمين، فإنهم لا يأتون البأس، قليلا أو كثيرا.. والمعنى: أن هؤلاء المنافقين إنما يستدعون من صفوف المسلمين من لا خير فيه، ولا نفع يرجى منه، بل إن قعوده خير المسلمين من خروجه.. واللّه سبحانه وتعالى يقول في المنافقين: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} [47: التوبة] قوله تعالى: {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ.. أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً}.
الأشحة: جمع شحيح، وهو البخيل بما يملك، الضنين به.
أي أن هؤلاء المنافقين الذين يشهدون الحرب بتلك النفوس المريضة، يضنون على المسلمين بأى جهد يبذلونه معهم في سبيل النصر، وكسب المعركة.
وقوله تعالى: {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ} حال أخرى بعد الحال في قوله تعالى: {وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا} أي أن هؤلاء المنافقين لا يأتون الحرب إلا قليلا، ضانين بأنفسهم على أن يبذلوها في سبيل اللّه، فهم إذ يضنون على المسلمين إنما يضنون على دين اللّه، الذي يجاهد من أجله المجاهدون.
وقوله تعالى: {فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} وصف كاشف لهؤلاء المنافقين الذين يشهدون القتال، بعد أن فضحت الآيات السابقة ما في قلوبهم من زيغ، وما في نفوسهم من مرض.. فهم إذا جاء الخوف، أي حضر البأس والقتال.. وقد عبر القرآن عنه بالخوف، بالإضافة إليهم، لأن القتال يطلع عليهم بما يملأ نفوسهم خوفا وهلعا.. أما المؤمنون، فإنهم إذا جاء القتال قالوا: {هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً}.
(22: الأحزاب).
وفي إقامة الخوف مقام القتال، إشارة إلى أن المنافقين أجبن الناس، وأشدهم حرصا على الحياة، وأن مجرد ذكر كلمة الحرب عندهم تملأ قلوبهم فزعا ورعبا- فالحرب بالإضافة إليهم، خوف متجسد.
وفي قوله تعالى: {رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} تصوير للحال التي تستولى على هؤلاء المنافقين ومن في قلوبهم مرض حين تتحرك أمامهم أشباح الحرب، وتلوح لهم جيوش العدو، فكيف يكون حالهم من الفزع والرعب، حين يلقون العدو، وتسل السيوف وتشرع الرماح؟ إنهم يموتون بصعقات الخوف، قبل أن يموتوا بضربات السيوف، وطعنات الرماح!! والخطاب هنا للنبى صلوات اللّه وسلامه عليه.. ونظرة المنافقين إلى النبي نظرة مذعورة، يائسة، تطل من أشباح مضطربة متهالكة متهاوية.
{كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ}! وهذا مثل قوله تعالى: {فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} [20: محمد].
وقوله تعالى: {فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ} أي أنه إذا خرج المنافقون من هذا الكرب، أطلقوا لألسنتهم العنان في النبي والمسلمين، بكل بهتان من القول، وخبيث من الكلم.
والسلق بالألسنة: الرمي بالهجر من القول منها.
والألسنة الحداد: أي الألسنة المسعورة الجارحة، الذلقة في الحديث.
فالمنافقون، أحدّ الناس ألسنة، وأكثرهم قولا، وأقلهم فعلا.. إن بضاعتهم كلها من زيف الكلام، وباطله، ينفقون منه في سخاء بلا حساب!- وقوله تعالى: {أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ} أي أنهم أسخياء في الثرثرة باللغو من القول، والباطل من الحديث، على حين أنهم أشحاء على الخير، قولا وعملا، فلا ينطقون بقولة حق يقولونها، ولا يسمحون بكلمة خير تخرج من أفواههم.
وقوله تعالى: {أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا} تشهير بهم، وفضح لهم على الملأ، وتعرية لهم من الإيمان الذي لبسوه ظاهرا، ولم يفسحوا له مكانا في قلوبهم.
وقوله تعالى: {فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ} أي لم يتقبل اللّه منهم عملا، حتى ما كان صالحا.. لأن الإيمان هو المدخل الذي تدخل منه الأعمال الصالحة إلى مواطن القبول من اللّه.. وهؤلاء لم يكونوا مؤمنين، فلا عمل يقبل منهم أبدا، ولا يقوم لهم بنيان، ولا يصلح لهم أمر مما يبيتون ويدبرون.
وقوله تعالى: {وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً}.
الإشارة هنا إلى ما يقع على أعمالهم من إحباط لها كلها، فلا ينجح لهم كيد، ولا يستقيم لهم تدبير.
إنهم يكيدون للّه، ويحاربون ربهم بهذه الأسلحة الباطلة، واللّه لا يصلح عمل المفسدين.. {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ}.
(26: النحل) قوله تعالى: {يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا}.
أي أن هذا الخوف الذي استولى على هؤلاء المنافقين من موقف القتال، وحال الحرب التي كانت متوقعة بين المسلمين وبين الأحزاب- قد لصق بهم، وصار كائنا يعيش فيهم، ووسواسا يملأ عليهم وجودهم، ويملك تفكيرهم، حتى أنهم- وقد ذهب الأحزاب، وردهم اللّه بغيظهم لم ينالوا خيرا- لم يصدقوا أنهم ذهبوا، إذ ما زال شبحهم مطلا عليهم.. هكذا يفعل الخوف بالجبناء، الذين يحرصون على الحياة، ويبيعون من أجلها الشرف، والمروءة، والرجولة.
وقوله تعالى: {وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ} أي ولو فرض أن الأحزاب عادوا مرة أخرى، وأخذوا مثل هذا الموقف من المسلمين، لتمنّى هؤلاء المنافقون أن ترمى بهم الأرض في مطرح غير ما هم فيه، وأن يكونوا من سكان القفار والبوادي.
وقوله تعالى: {يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا}.
كلام مستأنف، يكشف عن حال من أحوال المنافقين، وهو أنهم- لما ركبهم من خوف، يسألون عن أنباء المسلمين في جبهة القتال، لا اطمئنانا على المسلمين، ولكن استكشافا للأمر، وتعرفا على الموقف، حتى يأخذوا العدّة لأنفسهم على الوجه الذي يرونه، فإن جاءتهم الأنباء بأنّ المسلمين رجحت كفتهم وهبّت عليهم ريح النصر، انحازوا إليهم، وخلطوا أنفسهم بهم.. وإن كان الأمر على غير هذا، فلن يعدموا وسيلة يتوسلون بها إلى الأحزاب.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى عن موقف المنافقين: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ.. فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ؟ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [141: النساء].
وقوله تعالى: {وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا} هو إنكار على المنافقين أن يسألوا عن أنباء هذا الموقف، وهم بمعزل عنه، وكان الأمر يقتضيهم أن يشاركوا في القتال، وأن يكونوا بين المقاتلين، إن لم يكن ذلك دفاعا عن الدين، فليكن عن الأهل والدار والوطن!! ومع هذا، فإنه لم يفت المسلمين خير كثير من تخلّف هؤلاء المتخلفين، لأنهم لو شهدوا القتال لما قاتلوا، أو قاتلوا قتال المنحرفين، الذين يطلبون السلامة لأنفسهم قبل كل شىء: {وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ} أي لو شهدوا القتال معكم {ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا} أي لم يكن لهم إلا قتال هزيل لا أثر له.

1 | 2 | 3 | 4 | 5